
















اهلا الكبسولة التاسعة والأربعون
عيب عليك يا شابّ!
من الطريف أن ترى المصطلحات والمفاهيم الكبرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع، التي ألِفناها حبرًا على ورق، تنبق بكامل عفويّتها من تفاصيل الحياة اليوميّة المتهالكة. اثنان من هذه المفاهيم الماركسيّة رأيتهما في شخصين: واحد معلوف حتى التخمة وواحد مثل المربوط على بلاطة لا يملك من الدنيا إلا نفسه! الأول تشبيه حقيقيّ لرجل مستعار والثاني تشبيه مستعار لرجل حقيقيّ.
كنت عند جاري نحتسي القهوة. جاء شابّ في الثلاثينيّات من عمره يسأل عن تنكتي زيت جديد. قعد الشاب وشعرت أنّ في نفسه حديثًا كثيرًا يتقافز ويتدافع على رأس لسانه. "كيف حالك يا أستاذ؟" سألني الشابّ وهو يبتسم. "الحمد لله".. "وين سافرت السنة يا أستاذ؟" وما كدت أفتح فمي حتّى قاطعني الشابّ وصار يحدّثني عن سفرته لأسبوعين كاملين، هو وأسرته، إلى ثلاث دول أوروبية تنقّل بينها بسيّارة سكودا جديدة ووسيعة استأجرها من مطار فرانكفورت. أدركت عندها أنّ سؤاله كان فتوح حكي. فهو لا يعنيه أصلا إلى أين سافرت وكيف ولماذا. كلّ ما في الأمر أنه يريد أن يباهي أمامنا بسفراته وجولاته في أوروبّا. كلّفته السفرة أكثر من عشرة آلاف دولار. حتى في مطعم ساندوتشات عاديّ في سويسرا، انتبه يا أستاذ في مطعم عاديّ وليس في مطعم فخم، كانت الوجبة العاديّة تكلّفه أكثر من 100 يورو لأسرته!! استرسل الشابّ وهو يشرح لنا كم كلّفته الرحلة في السفر والمبيت والأكل والسيّارة والبنزين وطلبات طفلين لا تنتهي.. كان الشابّ يشرح بالتفاصيل المملّة وإن كان هو نفسه يحكيها بكثير من التبرّج والتوهّج والتدفّق والاندلاق.
أحضر جاري تنكتي الزيت الجديد وقال للشابّ: "1200". نطّ الشابّ من مكانه هلوعًا كالمقروص، وقال: "الببّور سعّر التنكة ب 500". [الببّور يعني المعصرة]. بدأت المساومة بينهما عاديّة ورقيقة. وأنا أسمع ولا أتدخّل وأستحضرُ ما أمرّ به كلّ موسم زيتون. والعمر من سنة إلى سنة صار يترك أثره على قدراتي الفلّاحيّة. كنت كلّ ليلة ما إن أضع رأسي على المخدّة حتى أرى كلّ أجدادي في القبور واحدًا واحدًا. أجدادي من جهة أمّي وأبي. كنت أنام على جنب واحد كالقتيل حتى الفجر بدون هزّ أو تهليل. منذ كنت فلّاحًا صغيرًا وأنا أسمع الفلّاحين الكبار في مواسم تقليم الشجر يردّدون: "التين اقطع واطيه والزتون اقطع عاليه". دعوني استسمح الفلّاحين حتى أعدّل من صيغة القول المأثور. "الزتون إن قطعت واطيه أو عاليه يقطع عمرك"، أقصد شغله ولمّه وعصره، ويقطع النسل والباه ويكسر الظهر والرقبة ويهدّ الحَيل ويعمي العيون التي في المحاجر...
غرقتُ في أفكاري للحظات طويلة ولم أنتبه إلى تفاصيل المساومة التي دارت بين الشابّ وجاري إلّا حين ارتفع صوت الجار بعد أن نشّف الشابّ ريقه وأنهكه وأرهقه! نظر جاري إليّ وقال لي بغضب ظاهر: "قول لهذا الشابّ بطّلنا نبيع زيت. ومن اليوم وطالع بدّي أدهن كلّ شعر بدني بالزيتات. خلّصنا بيع!" خرج الشابّ وهو يتمتم بكلام غير مفهوم وذيله بين ساقيه!
يموت الفلّاح ستّين ميتة في اليوم الواحد. وفي الأخير لا يحصّل إلا ما يتركه له التجّار الكبار والمتبرجزون الصغار من فتات. يمصّون دمه مصًّا. وأنت يا قليلَ الحياء لا تعنيني في سفراتك ولا مصروفاتك فهي من تعبك، حقّك وشأنك. لكن عفوك، إن كنت تصرف أكثر من 400 شاقل على ساندويشات تأكلها بعشر دقائق، في مطعم عاديّ في سويسرا، أتستكثر على فلّاح أنهكه التعب 600 شاقل ثمن تنكة زيت جديد تكفيك أنت وكلّ أسرتك أكثر من ثلاثة أشهر!؟ عيب عليك.. عيييب!