اهلا

الكبسولة الحادية والأربعون (41)
بروفيسور إبراهيم طه
رئيس قسم اللغة العربيّة وآدابها
في جامعة حيفا وأستاذ مادّة السيميائيّات
عقليّة أمريكيّة إمبرياليّة وقحة!!
منع ممثلي السلطة الفلسطينيّة من المشاركة في أعمال الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة ينضاف إلى السجّل الأسود الحافل لأمريكا الإمبرياليّة. الانتقال من الدبلوماسيّة الأمريكيّة المراوغة الصامتة إلى الدبلوماسيّة الجهريّة الصائتة هو إصرار على الغطرسة الإمبرياليّة الوحشيّة. وهي أسلوب معروف في الترهيب والترويع والتفزيع.
كنت قبل خمس سنوات تقريبًا واقفًا أنتظر دوري في صفّ طويل في أحد مقاهي الجامعة. وعندما طال انتظاري وجدتُني مشغولا بما يحدث حولي، أستمع لما يُقال من أمامي ومن خلفي. كان خلفي شابّ وشابّة من الأجانب يتحدّثان اللغة الإنجليزيّة باللهجة الأمريكيّة عن مرض الكورونا في الصين. وكان المرض وقتها في بدايته. لا يعنيني الموضوع ولم يلفت انتباهي فأغفلته وانشغلت بالهاتف المحمول لعلّي أجد فيه ما يُعينني على "قتل" الوقت القاتل. وظللت في مللي وضجري والحديث بين الشابّ والشابّة يتناهى إلى مسامعي غيرَ راغبٍ بحكم المسافة القريبة بيننا. قالت الشابّة: "إنّ عدد الوفيات لم يتجاوز المائة رغم الضجّة التي يثيرها العالم حول هذا الموضوع". فردّ الشابّ على قولها بنبر استعلائيّ غريب لم أفهم بواعثه: "لا أصدّق الرواية الرسميّة الصينيّة بشأن عدد الوفيات". فسألته الشابّة باستغراب ظاهر: "ولِمَ لا تصدّق؟!" فقال دون تردّد أو تأتأة أو ارتباك أو خجل: "لأنهم شيوعيّون!" هكذا قال من الباب إلى الطاقة بكلّ وقاحة وصلف. لم يُنقص ولم يزد. الحقيقة أني لست شيوعيًّا، ورغم ذلك صحوت من ضجري وقفزت دفعة واحدة كالمقروص. التفتّ إليه وقلت: "أنا لست شيوعيًّا مثلك بالضبط". ارتاح الشابّ واطمأنّ لكلامي فردّ الابتسامة بمثلها أو أحسن منها قليلا. فاستأذنته في أربعة أسئلة سريعة فوافق طبعًا بكلّ سرور. ولِمَ لا يوافق فأنا لست شيوعيًّا، ولا بدّ أن أكون إمبرياليًّا مثله بالتمام والكمال:
أولا: هل كلّ الأمريكيّين الرأسماليّين الإمبرياليّين قد جُبلوا على الصدق، لا تنطق ألسنتهم عن الهوى، لا يكذبون ولا يزيّفون ولا يخادعون ولا يمكرون؟ كانت لهجتي الساخرة قد بدأت تصل إلى عقله ببطء، وبقدر ما كانت تصل كانت ابتسامته تتراجع باطّراد.
ثانيًا: أنا أفترض أنّ هناك من الصينيّين الشيوعيّين وغير الشيوعيّين من يكذب فعلا، ويتقن فنّ الكذب مثلما يتقنه بعض الأمريكيّين وحكّام إسرائيل والعرب. وما دمتَ هنا في الجامعة، في أعلى مؤسّسة أكاديميّة، فلا بدّ أن تكون طالبًا أو مُعيدًا أو أستاذًا زائرًا. وهل هذه من خُلُق الأكاديميا؟ هل هذا التعميم الحصريّ الحاقد هو ما تعلّمته من الجامعة؟! كان كلامي يمحو بصفة تدريجيّة آثار ابتسامته التي بدأت عريضة فصارت قليلة عرض.
ثالثًا: هل موقفك الأيديولوجيّ، الذي أجهل تفاصيله والذي لا يعنيني، أعماك إلى حدّ جعلك تستهين بعقل محدّثتك، هذه الصبيّة الجميلة، وعقول الذين ساقهم القدر إلى هنا واصطفّوا من أجل فنجان قهوة مرّة واضطرّوا لسماع كلامك المرّ؟ أعرف كيف يترجمون كلمة "عيب" إلى الإنجليزيّة "الفصيحة". لكني لا أعرف كيف يترجمونها بظلالها التراثيّة وحمولتها الفلسطينيّة الثقيلة، فاسمح لي أن أقولها بالعربيّة بياء ممدودة مجهورة كما نقولها بلهجتنا الفلسطينيّة "عيييب!"... كانت ابتسامته قد تشظّت وتبعثرت تمامًا ولم يبق منها إلا فتات. نظرتُ إلى الفتاة صدفة فرأيت أنّ ابتسامتها قد بدأت تكبر بقدر ما كانت ابتسامته هو تصغر بالضبط.
رابعًا: هل ذاك التاجر العاهر أبو القلب الأسود الساكن في البيت الأبيض هو أبو بكر الصدّيق حتى تسكت عن كذبه؟! كانت لهجتي الساخرة قد بدأت تصخب قليلا، وكانت ابتسامته قد اختفت تمامًا وصارت تتحوّل بسرعة إلى تكشيرة يرافقها احمرار ظاهر في الوجه.
قحز هذا الشابّ إلى الوراء ولم يقل شيئًا، وكأنّ سربًا كاملا من الطيور قد حطّ على رأسه. تفاجأ الشابّ تمامًا. لم يفتح فمه. قفّل.. نظرت إلى الفتاة كان عرض ابتسامتها عرضيْن من الأذن إلى الأذن!