اهلا رغم الإذعان لوقف الحرب، نتنياهو يتابع التهديد
أمير مخول/ مركز تقدم للسياسات
تقديم: في ذروة التحولات الإقليمية التي فرضها اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، جاء خطاب بنيامين نتنياهو المسجّل ليكشف التناقض العميق بين لهجة التحدي الظاهرية وواقع الإذعان السياسي الذي يعيشه. فبينما حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الظهور بمظهر المنتصر والممسك بزمام القرار، كشفت كلمته عن أزمة داخلية متصاعدة وعن انحسار استقلال القرار الإسرائيلي أمام الهيمنة الأمريكية والضغوط الدولية. هذا الخطاب الذي أراد منه نتنياهو تعبئة قاعدته اليمينية، تحوّل في جوهره إلى اعتراف ضمني بتغيّر قواعد اللعبة، وانتهاء زمن المناورة بين الحرب والسلام.
المعطيات:
- مثّلت كلمة بنيامين نتنياهو المسجّلة في 10 تشرين الأول/أكتوبر رسالةً موجّهة في المقام الأول إلى الداخل الإسرائيلي، وخصوصًا إلى جمهوره اليميني. ورغم أنها بدت في ظاهرها متصلّبة وتحمل تهديدًا بالعودة إلى الحرب، فإنها شكّلت في الجوهر محاولة جديدة ضمن مسعى متكرّر لترسيخ روايته بشأن “الانتصار” واحتكار “الحقّ في القرار”، في مواجهة خصومه داخل المؤسسة الأمنية والسياسية، في إشارة واضحة إلى كلٍّ من رئيس الأركان، ووزير الأمن، ورئيس جهاز الشاباك السابقين.
- يسعى نتنياهو من خلال هذا الخطاب إلى تكريس سرديته ومنع أيّ احتمال لانقلاب المشهد ضده، في ظلّ تصاعد الأصوات التي تتهمه بأن شروط وقف الحرب كانت ناضجة منذ أشهر، كما تقول المعارضة، بينما يواجه في المقابل انتقادات من أقصى اليمين تتهمه بـ"التهاون" وتصف انتصاره بالوهمي. ويُعتقد أن تهديده بالعودة للحرب خطاب استهلاك سياسي يندرج ضمن حملته الدعائية تمهيدًا للانتخابات المقبلة، فيما ترى أوساط إعلامية وأمنية سابقة أن تصريحاته التصعيدية تعويض خطابي عن إذعانٍ كامل لإدارة ترامب وللواقع الإقليمي والدولي المستجد، ولعزلة إسرائيل غير المسبوقة.
- بمشاركة المبعوثَين الأمريكيين ويتكوف وكوشنر، أقرّت الحكومة الإسرائيلية خطة ترامب مساء 9 تشرين الأول، وبدأ تنفيذ المرحلة الأولى منها مع الانسحاب الجزئي ووقف العمليات العسكرية منذ ظهر 10 تشرين الأول. وجاءت الصورة التي تُظهر المبعوثين الأمريكيين إلى جانب نتنياهو تعبيرًا عن التبعية المفرطة للقرار الأمريكي، وتأكيدًا أن قرار وقف الحرب الإسرائيلية يصدر من واشنطن لا من تل أبيب. كما لا تبدو واشنطن قادرة على التراجع عن استحقاقات خطتها، شأنها شأن إسرائيل التي تواجه أوسع عزلة دولية في تاريخها، وتناميًا متسارعًا في أثر الموقف العربي والإقليمي. هذه المعادلة لا تترك مجالًا للتساؤل: من يقود من؟ إسرائيل أم الولايات المتحدة؟
- تأتي زيارة ترامب للمنطقة باعتبارها خطوة جوهرية وليست رمزية؛ فخطابه أمام الكنيست يرسّخ نهاية الحرب وتطبيق كامل الخطة الأمريكية. ورغم أن الخطاب قد يمنح نتنياهو نقاطًا حزبية، فإنه سيستغلّها لترسيخ روايته حول “الانتصار” وفق نهجه. وقد أظهرت استطلاعات نهاية الأسبوع نتائج متوقعة: تعزيز مكانة نتنياهو والليكود على حساب أقصى اليمين، دون تغيّر جوهري في ميزان الكتل بين الائتلاف والمعارضة. وتشير النتائج إلى اتساع شعبية نتنياهو بفضل إنهاء الحرب، في حين يُنظر إلى تراجع أحزاب “الصهيونية الدينية” على أنه عبء على فوز الليكود، ما قد يدفع نتنياهو إلى تغيير تحالفاته السياسية وتشكيل حكومة أكثر انسجامًا مع الخطة الأمريكية، التي بدورها لا تترك مجالًا للمفاجآت.
- من الواضح أن الخطاب السياسي الإسرائيلي يشهد تحوّلًا مع نهاية الحرب، وسط تأكيدات ترامب – الموثوق إسرائيليًا أكثر من بعض قادة إسرائيل أنفسهم – على عدم العودة إلى العمليات العسكرية. وبرغم انتقادات أقصى اليمين، يُنظر إلى نتنياهو الآن كـ قائد مسؤول وفق المقاييس الإسرائيلية، وإن كان هذا الموقف مؤقتًا يخدم مصلحته في البقاء بالسلطة. كما يبدو أن خطاب التصعيد الحربي لم يعد ملائما للمرحلة المقبلة، لا سيما مع اقتراب زيارة ترامب.
- على الأرض، أعاد الجيش الإسرائيلي تموضعه وفقًا للخطة، بالتزامن مع عودة كثيفة للفلسطينيين إلى شمال غزة، وبدء تنفيذ صفقة تبادل الأسرى التي ستُغيّر المناخ العام. لم يعد هناك مبرّر لمواصلة الحرب ودفع أثمانها، فيما يتلاشى حلم اليمين المتطرف بإعادة التهجير والضمّ والاستيطان، وتتراجع مشاريع “إعادة بناء المستوطنات” التي وعد بها بن غفير.
- إداريًا، لن يكون بمقدور حكومة نتنياهو تجاوز الوضع الجديد في غزة، بما فيه دخول قوات دولية وعربية وفلسطينية، وتشكيل منظومات إدارة جديدة وفق الخطة. بالمقابل، ستواصل إسرائيل مطالبتها بنزع السلاح من القطاع، وهي مطالب تتقاطع مع الإجماع العربي والإقليمي والفلسطيني، ما يجعل تهديدات نتنياهو بـ“تجديد الحرب” بعيدة عن الواقع الميداني والسياسي.
في الخلاصة:
** تضخيم تهديدات نتنياهو إعلاميًا لا ينسجم مع المتغيرات الدولية والإقليمية، التي تتحكم في مسار القرار الإسرائيلي وتقيّده. فخطابه المتصلّب ليس سوى تعويض لفظي عن الإذعان الفعلي للمخطط الأمريكي، الذي جعل إنهاء الحرب أولوية استراتيجية تتجاوز حدود غزة لتطال موازين المنطقة بأكملها.