
















اهلا- القاهرة
«السلام لا يعني النسيان» تنبيه جاء على لسان بيدرو ساتشيز رئيس وزراء أسبانيا عقب التوصل إلى إعلان ترامب بخصوص غزة أو اتفاق الهدنة بين إسرائيل وحماس. ولم يتردد سانشيز على التأكيد بأن لا يمكن الافلات من العقاب وهو يشير الى ما ارتكبته إسرائيل في غزة ومع الشعب الفلسطيني من ابادة جماعية لا يمكن السكوت عليها أو نسيانها مع مرور الزمن..
وهنا أتذكر ما تكرر على مسامعي كثيرا..وأنا لست بغريب عما يسمى التهجير والتشريد والإبادة الجماعية بأن «الكبار سوف يموتون .. والصغار سوف ينسون» بهذا القول الصاعق والصادم يرى من يسخر من ذاكرة الأفراد أو يريد أن يقلل من شأن ارادة الشعوب ورغبتها في حياة أفضل أن العملية محسومة وأن ما يسمى ب«قضية» (إن عاجلا أو آجلا) سيتم دفنها. ولكن عفوا يا سادة فكل يوم هناك طفل صغير يولد ليصرخ ويتذكر ويذكر ويكبر ..ويرفع راية الحياة والاستمرار..ويقاوم النسيان
ويتم وصف النسيان بأنه فقدان الذاكرة . وفي رأي البعض هو عدم اللجوء إلى الذاكرة كنوع من تقبل الأمر وتجاوزه .. أو محاولة للهروب الى ملاذ آمن ولو لبعض الوقت ـ أو هكذا يتصور البعض!
ولا أبالغ في القول إن قلت أن صاحب القرار والنفوذ (أو فلنقل أغلبهم) يحبذ ويفضل النسيان. أو من يملكون ذاكرة قصيرة المدى مثل ذاكرة السمكة (كما يقول المثل التركي) وبالتأكيد لا يحب من لهم ذاكرة حديدية ومن هنا يتم تبرير انزعاج أو غضب السياسي من الصحفي لأن الأخير (إذا قام بواجبه المهني) فسوف يقوم بتذكيره وتذكيرنا كقراء بما قاله السياسي ولم يقله من قبل وبما فعله السياسي ولم يفعله من بعد. وبالوعود البراقة التي لم يبخل بها علينا! وفي الآخر طلعت فشنك!
«نعم أحب أن أنسى» نقلت هذه الرغبة عن المفكر زكي مبارك الذي أكمل عبارته قائلا: «ولكن أين بائع النسيان؟». فعلا أين هو؟ ومن هو هذا البائع؟ وما هي أسعار النسيان هذه الأيام؟ وإذا تم بيع النسيان فمن سيشتريه؟! خاصة أن الكل عادة يروج للذاكرة ويحذر من أن «يضربها» أو «يشلها» النسيان. ولا شك أن الزهايمر شبح يهددنا وكابوس يطاردنا. نحن ومن حولنا. ويا رب استر!
ويذكر الروائي عبد الرحمن منيف «ان النسيان أسهل طريقة للحياة». وربما يعني بهذا «ارمى ورا ضهرك واقلب الصفحة». منيف يفول لنا أيضا : «لولا النسيان لمات الإنسان لكثرة ما يعرف. مات من تخمة الهموم والعذاب والأفكار التي تجول في رأسه»
وقد تم التنويه كثيرا بأن «الذاكرة خدام العقل وأن النسيان خدام القلب». وأن الإنسان ربما يتمكن من العيش دون أن يتذكر ولكن من المستحيل أن يعيش دون أن ينسى. وطبعا في هذا أيضا يمكن أن نلجأ للحكمة القائلة: اسألوا المجرب ولا تسألوا الطبيب
ومن منا ينسى الأغنية الشهيرة التي سمعناها ورددناها على مدى عشرات السنين (نعم من الزمن الماضي الجميل) وهي أغنية «انس الدنيا وريح بالك واوعى تفكر في اللي جرالك»ـ كلمات مأمون الشناوي ولحن وغناء محمد عبد الوهاب. هذه الأغنية ولدت عام ١٩٤٤. ومن حين لآخر يذكرنا عشاق الأغاني الغربية بأغنية الفيس بريسلي الشهيرة « لقد نسيت أن أتذكر بأن أنسى».
الروائي ابراهيم عبد المجيد في احدى كتاباته يقول « دائما أتذكر نهاية جابرييل جارسيا ماركيز العظيم الحزينة، الذي انتهى بالنسيان الكامل لمن هو وحياته ومعارفه». ونحن كعشاق ماركيز نتذكره ونتذكر ما كتبه في روايته «حب في زمن الكوليرا»։
«ان ذاكرة القلب تمحو كل الذكريات السيئة وتضخم الذكريات الطيبة. واننا بفضل هذه الحيلة نتمكن من تحمل الماضي»
الكاتب الكبير ابراهيم عبد المجيد في كتابه «آفة حارتنا بين الذاكرة والنسيان» يكتب:
«مقولة نجيب محفوظ الخالدة في روايته أولاد حارتنا «آفة حارتنا النسيان» صارت شعارا لأحوالنا وبالذات في أوقات الهزائم والانكسار»
ويتناول الكاتب تفاصيل الحالة المصرية « ..مصر منذ بداية التاريخ دولة مركزية حاكمها الأوحد وصل في عصورها الأولى إلى مرتبة الآلهة. وبعد ذلك لم يتعظ الحكام أبدا أن العصر تغير وظلوا يحاولون أن يكونوا آلهة. ولما كان ذلك صعبا اعتبروا أنفسهم أنبياء أو أولياء ووجدوا من الشيوخ من يروج لهم ذلك»
ولم يتردد كاتبنا العزيز أن يذكرنا بما تم كتابته أو قوله في كتابات وصفت في يوم ما بكتابات «التنوير» إلا أن «هذه الكتب لم تعد في الذاكرة الآن ليس بحكم النسيان لكن بحكم الاهمال المتعمد».. وليس لها مكانا في المقررات التعليمية للأجيال الجديدة. كما ينبهنا ابراهيم عبد المجيد. والذي يختم مقاله هذا بالقول:
«آفة حارتنا لبست النسيان ولكن إخراج الشعب من معادلة الحكم وتملك الدولة الحقيقة وحدها ومن ثم فالشعب «ينتظر» ولا «ينسى» وهو أمر لا يمس مصر وحدها أيضا.»
ـــــــــــــــ
ابه نسيت نفسك ولا ايه!
هكذا يأتي التنبيه أو التحذير أو العبارة الصادمة «هو أنت نسيت نفسك؟ ولا تحب أفكرك؟». ولا شك أن نفسية ونية القائل وشكل علاقته بك أو نبرة التنبيه تحدد طبيعة الغرض من «جرس الإنذار». هل هو مهموم بك و«قلبه عليك» أم عايز يحرجك (ويمكن نفسه يذلك كمان). وفي كل الأحوال «اوعى تنسى نفسك»
و«اوعى تنسى نفسك» هي النصيحة الغالية التي تتكرر على مسامعك من أصدقائك المخلصين. ومن هنا أجد سمير ـ صديق أيام الصبا والشباب ـ ينبهني و«يشد ودني» قائلا:«اوعى ـ حذار من أن تأخذك مشاغل الحياة وتربطك في ساقية وتغمم عينيك وتكمم فمك. وتفضل تدور وتدور بك بلا توقف .. ووقتها مش بس حتكون نسيت نفسك انما حتكون كمان مش عايز حد يفكرك باللى انت فيه» !!