
















 اهلا الكبسولة السادسة والخمسون 
كلٌّ أدرى بثلثه!
إذا اجتمع طمع المنتج مع جشع المستهلك فثمّ الطامّةُ الكبرى! 
فائض الاستهلاك عندنا آفةٌ حالقة. تحلق طعم العيشة وشغفها مثلما تحلق شعر الرأس. ولها وجهان كلاهما شرٌّ مستطير: (1) فصل الشراء عن القدرة والاستطاعة: كأن تقترض معلّمة من البنك مئة وخمسين ألف شاقل لتشتري سيّارة جديدة، بالنايلون، والمدرسةُ لا تبعد عن بيتها إلّا دقائق معدودات، وراتبها الشهريّ أقلّ من تسعة آلاف شاقل، مثلما أخبرني صديقي العزيز مدير البنك. أنقلها عنه كما حدّثني حرفًا بحرف. (2) فصل الشراء عن الحاجة والاستعمال: كأن تشتري طالبة جامعيّة هاتفين جديدين لا تعرف ماذا تفعل بهما بالضبط. بعض الناس إذا استحلى غرضًا اشتراه قبل أن يعرف استعمالاته أو يحدّد ضرورته العمليّة! وهذه كنت أنا نفسي شاهدًا عليها. 
قبل سنة تقريبًا قرأت قصّة طريفة عن الشيخ الألبانيّ، وهو من شيوخ الحديث النبويّ الشريف. ومفادها بالمختصر أنّ الشيخ، وكان أكولًا نهمًا، قد دُعي مرّة إلى طعام فاخر يَطعَمُه عند أحدهم، فأخذ يأكل بكلّ أطرافه وجوارحه. يأكل الشيخ وتأكل أصابعه كلّها وتأكل لحيته وأكمام دشداشته وهي تغوص في القِدر. فداعبه أحد الحضور بخبثٍ مفضوح وسأله عن صحّة الحديث النبويّ "ثلثٌ للطعام وثلثٌ للشراب وثلثٌ للهواء، أي للنَفَس". فقال له الشيخ دون أن يرفع رأسه وقد أدرك مغزى السؤال: "الحديث صحيح.. لكنْ كلٌّ أدرى بثلثه"! 
أعادتني قصّة الشيخ حينها إلى أيّام كنّا طلّابًا في الجامعة. وقتها كانت حصّتنا من الهواء أكثر من ثلثين. لم نجد فيها ما نملأ به معداتنا الخاوية طول النهار إلا بعض فناجين من القهوة "نغمّس" بها سجائرنا الخفيفة من نوع "أوروبا". هكذا كنّا طيلة الأسبوع، حتى كان الواحد منّا إذا أخرج ريحًا من بطنه لا يُخرج إلا مزيجًا من دخان سجائر وبقايا قهوة مبرّدة. لا أبالغ! هذا في الحرم الجامعيّ أثناء الدراسة. أمّا في مساكن الطلبة فكنّا مرّات عديدات إذا انقطع الزيت من البيت، وكان بين الحين والحين ينقطع، نفقس البيضة في المقلاة "ونقليها" بقليل من الماء المغليّ فتخرج مسلوقة بهيئة مقليّة، سمّيناها بيضة "مَسليّة" وقتها على غرار ما فعله إميل حبيبي في المتشائل. اليوم هي صيحة صحّيّة. يومها كانت صيحة قلّة وفقر!
تذكّرت كلّ هذا وأنا أغادر غرفة المحاضرة، والطالبة الأخيرة قدّامي على بعد أمتار قليلة وحقيبتها على ظهرها. كانت تتهادى بشيءٍ من الغُنج والدلال حين رنّ هاتفها المحمول: "هاااي غادة، إسّا خِلْصَتْ المحاضرة.. منلتقي في الكافتيريا". وقبل أن تنهي هذه الطالبة حديثها مع غادة رنّ هاتفها الثاني فتناولته بيسراها وهي تقول: "عَمْ بحكي مع غادة.. وينَك إنتَ يا حلو؟! طيّب.. إلحقنا على الكافتيريا". كانت الطالبة تتحدّث بهاتفين اثنين في آنٍ واحد، على اليمين وعلى اليسار، وكلّ هاتف منهما بحجم شاشة تلفزيون صغيرة يلمع لمعًا.. غبطتُها على النعمة!
هل كانت تلك الطالبة "أمّ الهاتفين" تتحدّث بيديها الاثنتين لأنّ معها قُطّينًا فعلًا؟ لا أعرف! حتى وإن كانت كذلك، أليس هذا هو الأشَر والبَطَر؟! هل الحديث مع "غادة" والشابّ "الحلو" في وقت واحد هو أقصى استعمالات هذين الهاتفين؟! ألهذا الغرض كانت الفتاة في حاجة إلى اثنين وهي طالبة جامعيّة؟!
ولِمَ هذا الموقف الرفضيّ أصلًا؟! هل ضاقت عيني إلى هذا الحدّ؟! لا، ما ضاقت.. لكنْ مَثلُ القُطّين والأكل باليدين الاثنتين عالق في زوري. مَثل غريب عجيب وجب استبداله بمَثل الزبيب: "اللي عندو زبيب يوكل ويطعم القريب والغريب"!