
















اهلا-رانية مرجية ياسر عرفات… الذي حمل فلسطين على كتفيه ومشى بها نحو الخلود
بقلم: رانية مرجية
في الحادي عشر من تشرين الثاني، تتوقف الذاكرة لتلتقط أنفاسها، كأنها تُعيد ترتيب جراحها القديمة، وكأنّ الزمن لم يمضِ منذ أن أغمض ياسر عرفات عينيه في مستشفى بيرسي الفرنسي.
كأنّ رحيله لم يكن موتًا بقدر ما كان عبورًا آخر نحو الخلود. فما من موتٍ حقيقيٍّ لأولئك الذين يتحوّلون إلى فكرةٍ تسكن الشعوب.
القائد الذي وُلد من رماد المنافي
وُلد ياسر عرفات من رحم النكبة، من خيام اللجوء التي لا تقي بردًا ولا تحفظ كرامة. وُلد من ملح الأرض والخذلان العربي الطويل، من زمنٍ كانت فيه فلسطين مجرّد جرحٍ مفتوح في ضمير العالم.
لكنّه لم يقبل أن يكون ابن المأساة فحسب؛ كان يؤمن أن الإنسان الذي يُجبر على الرحيل يمكنه أن يصنع من منفيه وطنًا مؤقتًا، ومن نكبته قضيةً خالدة.
عرفات لم يُقدَّم له وطنٌ على طبقٍ من ذهب، بل انتزعه من فم العدم، حجراً بعد حجر، ودمعة بعد دمعة. كان يعرف أن السياسة ليست ميدانًا للترف، بل حقل ألغامٍ يزرعه الأقوياء ليتعثّر فيه الضعفاء. لكنه مشى، بالكوفية ذاتها التي صارت فيما بعد رايةً تُعرف بها فلسطين حتى دون أن تُذكر بالاسم.
ذاك الذي بنى وطناً من الذاكرة
ياسر عرفات لم يكن مجرد سياسيٍّ يقف أمام الكاميرات. كان شاهدًا على التاريخ وصانعه في آنٍ واحد.
في وجهه المنحوت بالهمّ والصلابة، كانت تختبئ خريطة فلسطين كلها. في صوته المبحوح كانت ترتجف المدن والقرى واللاجئون.
كان يعرف أن من يقود شعبًا مشرّدًا عليه أن يحمل همّهم في قلبه قبل أن يرفعه في خطابه.
ولم تكن كوفيّته زينةً أو شعارًا، بل لغةً كاملة من الرموز:
بياضها للسلام، وسوادها للحداد، وتعرجاتها طريقٌ بين حلمٍ مؤجلٍ وواقعٍ ممزق.
كانت الكوفية كهويةٍ تُقاوم الاندثار، كأنها إعلانٌ دائم أن هناك وطنًا يُقاوم محوه، وأن الفلسطيني لا يزال هنا — يقف، يتنفس، ويشهد.
السياسي الذي فهم العالم ولم يستسلم له
لم يكن عرفات مثاليًا بمعنى الحكايات، بل كان واقعيًا إلى حدّ الإيمان بالمستحيل.
كان يعرف أن النقاء المطلق لا يصنع التاريخ، وأن من يريد أن يُبقي شعلة وطنه حيّة عليه أن يساوم أحيانًا، ويقاتل أحيانًا، ويصمت أحيانًا — لكن دون أن ينسى البوصلة.
في قاعات الأمم المتحدة، حين رفع غصن الزيتون بيدٍ والبندقية بالأخرى، لم يكن يخاطب السياسة بقدر ما كان يخاطب الضمير الإنساني.
قالها بوضوحٍ يشبه القدر: “لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.”
تلك الجملة لم تكن استعارة، بل نداء البشرية الأخير قبل أن تستسلم لأهوائها.
الرحيل الغامض… والبقاء الأوضح
حين رحل عرفات، لم يُدفن فقط في رام الله، بل توزّع رماده في كل زاويةٍ من فلسطين: في حجارة القدس، في صدى البحر، في دمعة أمّ تنتظر عودة ابنها من سجنٍ بعيد.
موته الغامض لم يُنهِ سيرته، بل عمّقها. ترك وراءه أسئلةً مفتوحة على التاريخ، وكأنّ غيابه مقصود ليبقى السؤال حيًّا:
من الذي يخاف من الرموز حين تتحوّل إلى فكرةٍ لا تُقتل؟
لقد أرادوه أن يغيب جسدًا، فصار أكثر حضورًا من كلّ الأحياء.
أرادوه أن يُنسى، فصار ذاكرةً لا تُمحى.
أبو عمّار… الإنسان قبل الزعيم
كان ياسر عرفات يعرف الجوع، والعزلة، والخوف، كما يعرفها أي فلسطيني عادي.
لم يكن يعيش فوق الناس، بل فيهم. كان يتناول الطعام نفسه، ويضحك من النكت الشعبية، ويبكي على الشهداء بصمتٍ صادق.
لم يكن يرى في نفسه زعيمًا مقدسًا، بل حارسًا للحلم الجماعي الذي لا يُفارق عيون الأطفال حين يرسمون فلسطين.
وإن كان قد أخطأ، فذلك لأنه لم يكن ملاكًا، بل إنسانًا حمل عبء وطنٍ كامل على كتفيه. ومن يستطيع أن يسير بهذا الحمل دون أن يتعثر؟
لقد عاش حياته كلها كمن يسير في حقلٍ من الألغام، لكنّه لم يتراجع خطوةً واحدة عن الحلم.
ما بعد الغياب
في كل عام تمرّ ذكرى رحيله، لا تُقام فقط مراسم النحيب، بل امتحان الذاكرة.
هل ما زلنا نؤمن كما آمن؟ هل ما زال الحلم حيًا كما أراده؟
لقد ترك لنا عرفات إرثًا لا يُقاس بالمؤسسات، بل بإيمانٍ جمعيٍّ بأن فلسطين ليست قضية سياسية بل معنىً للكرامة الإنسانية.
في زمنٍ يتغير فيه كل شيء، يبقى ياسر عرفات ثابتًا كصخرةٍ في بحرٍ هائج، يذكّرنا أن الهوية ليست شعارًا يُرفع، بل جذرًا يُغرس في القلب.
سلامٌ عليك يا أبا عمّار.
سلامٌ على من حمل فلسطين في صوته، في عينيه، في تجاعيد وجهه، وفي رحيله أيضًا.
سلامٌ على الرجل الذي أثبت أن الأوطان لا تُصنع فقط بالخرائط، بل بالإيمان بأن الإنسان، حين يحب وطنه، يمكنه أن يخلق المعجزة