
















اهلا الجولان على مفترق طرق تفرّعاته زلِقة
وقفات على المفارق
(مع كِتاب مفتوح إلى الجولانيّين من وحي أمسية حواريّة)
الوقفة الأولى... وأيّام الجولان الثقافيّة.
وقفت قبل أيّام مع الجولانيّين في وقفات أخرى عبّرت فيها عن ثبات مواقفهم رغم الأزمات، وقُيّض لي بُعيد هذا أن أشارك في ندوة حواريّة مفتوحة في برنامج "إيّام الجولان الثقافيّة" التي تقوم عليها مجموعة "فاتح للدّرس". شارك في الندوة العشرات من الجيل "المخضرم" والشباب؛ رجالًا ونساءً، دام الحوار قرابة الثلاث ساعات لـ "شائكة" المواضيع التي طُرحت والتي كان نجومها الشباب. يخرج المرء من مثل هكذا حوار مع خليط من المشاعر فيها راحة ولكن فيها قلقٌ، ولعلّ أكثر القلق نابع من جهويّة المشاركة من ناحية – وأنا المدّعي معرفة بمسارب الجولان - ومن الأخرى الأطروحات التي وضعها الشباب وفي صلبها التفتيش عن مسارب في انزلاقات مفترقات الطرق تحت أقدامهم.
الوقفة الثانية... وعاصفة السويداء وإسقاطاتها.
ما من شكّ إنّ العاصفة التي تضرب الوطن الأمّ من القامشلي شرقًا إلى اللاذقيّة غربًا وإلى السويداء جنوبًا شعواء. في السويداء – جبل العرب – شعواء بفظائعها ونتائجها، وشعواء بـ "باشانيّتها". فهل ستكون هذه العاصفة فارقة في خيارات الجولانيّين بين أمَرّين؟!
قبل سنوات وحين اشتدّ الخناق الاجتماعيّ على من قَبِل أو وقع ضحيّة فرض الجنسيّة الإسرائيليّة من الجولانيّين، اختارت غالبيّتهم أن تتحرّر من الجنسيّة وتعود لأحضان أهلها، وخاضت معركة قضائيّة اشترطت عليهم فيها قيادة المجتمع أن يتولّى الأمر محاميّان عينيّان لا غير خوفًا من التلاعب. المؤسّسة رفضت الطلب والمحكمة العليا الإسرائيليّة رفضت الالتماس والتعليل: "القانون ينصّ على أنّ من يريد التنازل عن جنسيّته فليغادر البلاد، الدولة غير ملزمة بمنحه حقّ الإقامة - هكذا!". في هذا الرفض الدليل الأكبر على المعنى السياسيّ الكامن في تجنيس الجولانيّين.
اليوم تنبري القلّة منهم في وجه الجولانيّين وعلى ضوء انسداد الآفاق؛ لا تعليم شباب في الشام ومنع المنح الدراسيّة عنهم و ... و ... ونتائج سقوط النظام وبديله وأفعاله محليّا وعينيّا مذابح السويداء، وإقليميّا وتوافقاته مع الاحتلال، تنبري هذه القلّة رافعة عقيرتها في وجه الجولانيّين: "هذا الزمان لنا... فأنتم "الوطنجيّون"- هكذا – (والحكّي لا يفرّق بين معارضة ومولاة) ولّت أيّامكم!
الوقفة الثالثة... والدروز الفلسطينيّون – الإسرائيليّون ما قبل الـ 1956.
الوضع "الجيو- اجتماعيّ" الذي يمرّ به الجولانيّون اليوم شبيه ببعض أوجهه بذاك الذي مرّ به دروز البلاد ما بعد النكبة 1948 وقيام إسرائيل، ذاك أفضى إلى التجنيد الإجباري عام 1956 وتبعاته المدفوعة الثمن غاليّا حتّى اليوم، فهل يفضي وضع الجولانيّين اليوم إلى مثيله؟!
يكفي الجولانيّون اليوم العودة إلى الدراسة التي أجرتها جامعة حيفا عن أوضاع الدروز بمرور 60 سنة على قيام الدولة، كي يفهموا إلى أيّ منحدر انحدرت بهم الأوضاع رغم تجنيدهم، ولا يغرّن أحد الرفاه الظاهر، الرفاه "الفيكتسيوني- التخيّلي"، فيكفي أنّ 76% منهم قال في الدراسة؛ إنّ وضع بقيّة العرب أفضل من وضعهم!". ففي هذا ضوء أحمر قانٍ أمام المنزلقين في الجولان، دراية أو عدم دراية، نحو الأسرلة. وبغضّ النظر؛ هل الجولانيّون قادرون على التصدّي؟
الوقفة الرابعة... والمعارضة والمولاة واحتلال العقول!
في احتفاء بعيد الجلاء عام 2018 في عين قنيا، شاركت وقلت في بعض ما قلت ما تصحّ فيه المقولتان: "ذكّر إن نفعت الذكرى"، وَ "ما أشبه اليوم بالأمس"، قلت:
"سأخرجُ عن التقليد وأخاطبُكم هذه المرّة بالكلمة المكتوبة المقروءة.
ما من شكّ أن لذكرى الجلاء الاستقلال هذه السنة طعما آخر، طعما مختلفا بعض الشيء عمّا سبقه من السنوات السبع الأخيرة. غير أن الجلاءَ لم يكن مرّة احتفالاتٌ ومسيراتٌ ومهرجاناتٌ وفقط، ولا خطبَ رنّانة. الشعوبُ في ذكرى استقلالها تجرد الحسابَ مع نفسها، لأن الاستقلالَ ليس فقط عن مستعمرٍ أو محتلٍّ أو غازٍ وبجلائه ورحيله أو إجلائه وترحيله، الاستقلالُ هو استقلال عمّا تركه المحتلُّ في النفوس والعقول.
عام 1981 وفي عزّ الشباب وليلا في ساعة متأخرة ومن وراء شبّاك غرفة بيت فوق ساحة هذا البلد المركزيّة، رأيت بأم العين تابوت ميْتٍ محمولا على بضعة أكتاف ليس إلا، وما من مرافق له في رحلته النهائيّة إلا نفرٌ قليل لا يتعدّى أصابعِ اليدين. رأيت المصلّين وما اكتمل العددُ والإمامُ المقيمُ الصلاةَ "مستورد"!
رأى هذا المشهدُ النورَ في الغداة على صفحات جريدة "الاتحاد" حينها بقلم مجهول، كما رأت النور الكثيرُ من المشاهد البطوليّة التي اجترحتموها في بقيّة قرى الجولان، وما فتئ أن انكشف هذا المجهولُ ليُمنعَ وبأمر عسكريّ من دخول الجولان ما دامت كانت معركتُكم على الهويّة قائمة.
فإذا كان مجرّدُ النشر والتعريف بمواقفكم ضدّ سياسة المحتل مخيفًا، فما بالكم من الموقف وكم كان مخيفا. هذا المشهد كان مخيفا للمحتل لأنه عبّر عن موقف جارف موحَّد ذابت فيه كلّ الخلافاتِ والاختلافات العائليّة والفكريّة والسياسيّة، رغم أنها كانت قائمة وموجودة، لكن ابنَ أحمدَ شبك يده مع ابنِ محمّد، والبعثيّ مع القوميّ السوريّ والناصريّ والماركسيّ والعكس صحيح، وشبك الروحانيّ يده مع الجسمانيّ مشكّلين شبكة واحدة لا بل قلبا واحدا عصيّا على الاختراق في وجه المحتل.
شرّفتم في هذا الموقف في تلك المعركة، كلَّ عربيّ عروبيّ وكلّ قوميّ متنوّر وكلَّ إنسان آدميّ، شرّفتم سوريّة صغيرَها وكبيرَها ترابَها وهواءَها، قدّمتم لها أحلى الهدايا في ذكرى كلّ جلاء.
الأمرُ الطبيعيّ أن العاصفةَ الهوجاءَ التي هبّت على سوريّة وما زالت تعيشُها، كان أن تصيبَ الكلّ تصيبَنا وتصيبَكم. ولكن ما لم يستطعْه الاحتلالُ، رغم كلِّ محاولاته لاختراق وحدتكم، استطاعته هذه العاصفة، هذه حقيقة يجب أن يُعترف بها على الملء وبالذات في يوم كهذا اليوم، يومِ الجلاء، هذه العاصفة شتّتت الصفوف وفرّقتها ومزّقت شباك الوحدة. نحن لا نفتّش اليوم عن مذنبٍ وبريء ولا نفتّش عن مخطئ ومصيب، وما يصحّ في هذا السياق في جبل العرب أو في حلبَ أو اللاذقيّةَ لا يصحّ في الجولان، فالجولان محتلّ، هذا الكلام للحاضر والغائب.
نحن يجب أن نفتّشَ عن الآثار التي تركها هذا الواقعُ وغاب عن بال الكلّ في معمعانِ الأزمة والمواقفَ منها، أو غيّبه البعض مع سبق إصرار وترصّد. الآثارُ خلقت فراغا ولا فراغَ باقٍ في الدنيا، الفراغ سيجدُ حتما من يملؤُه، وفي هذا الفراغ وجد المحتلّ وأزلامُه من هنا ومن هناك، ضالتَهم وجدوا ما فتّشوا عنه سنواتٍ طوال.
الاحتلال، كلّ احتلال، لا يكتمل ولا يعيش إن بقي احتلالَ أرض، لكنّه يكتمل عندما يحتلّ العقول والنفوس. احتلالُ الجولان فشل في أن يكتمل رغم قوانين الضمّ ورغم كلّ الممارسات القمعيّة التي مارسها ضدّكم لأنّه عجز عن احتلال العقول وعجز عن احتلال النفوس، وما عجّزه إلا الوحدة، وحدةُ الهدف ووحدة العمل.
مَلءُ هذا الفراغ يبدأ حين يصير شبابُنا يلعبون كرة القدم على كأس الدولة المحتلّة، يعني نظريّا لو فازوا لكانوا سيرفعون علم الدولة المحتلّة. مَلء هذا الفراغ في تحويل أدوات الاحتلال، المجالس المحليّة مثلا، من أدوات احتلال إلى أجسامَ منتخبة حتّى لو شارك في إعطاء الشرعيّة لهذه الأدوات أقليّة. مَلء هذا الفراغ هو في تغلغل الخدمة المدنيّة ومشتقّاتها. مَلءُ هذا الفراغ هو في تشويه سلوكيّات شبابنا وتطلّعاته. مَلءُ هذا الفراغ في التعاون، ولا فرق إن كان ذلك عن جهل أو عن طيبة قلب، على التدخّل في الجبل وحظر وغيرها.
الدولة السوريّة التي كلّنا نحبّ، تعقد المصالحاتِ والتسويات ورغم انتصاراتها وليس دائما بالشروط التي تريد، فدعاة المصالحة فيها يتنازلون عن الكثير "كُرْمى" للمصالحة وحقن الدّماء وتفويت الفرص على الأعداء. أحبّاءُ الدولة السوريّة يجب أن يسعوا إلى المصالحة وأينما كانوا، وكم بالحري إذا كانوا تحت احتلال وجد في الفراغ الذي خلّفه الانقسام بينكم مقتلا لن يحيد لا عن موالٍ ولا عن معارض ومهما غالى الأولُّ في موالاته وغالى الآخرُ في معارضته.
الكثيرون منكم يعرفون أنّنا لا نعظ هنا وإنّما نعمل، فدرهمُ عمل خيرٌ من قنطار وعظ، وما لكم والله إلا وحدتكم ضمانا و- "كلّ على دينه الله يعينه" إلى أن يقضي اللهُ أمرا كان مفعولا.
قلت قولي هذا فيكم وأستغفرّ الله لي ولكم.
كلّ جلاء وأنتم بخير... وإلى الجلاء الأكبر!
عاشت سوريّة وعشتم!"
الوقفة الخامسة والأخيرة... والثور الأبلق!
دعونا أن نكون صريحين وحتّى النهاية، يبدو جليّا أنّ رواسب الأزمة السوريّة ما زالت ترمي بإسقاطاتها عليكم، زاد طينها بلّة النتائج التي عصفت في سوريا مؤخّرًا وعينيّا في السويداء. صحيح أنّ التأزُم زال ولكن ما زال ينقصه الحوار الجدّي العميق المطلوب، ولعلّ في نوعيّة المشاركة في "أيّام الجولان الثقافيّة" بيّنة. ظواهر "الأسرلة" على قلّتها تزحف كزحف الرقطاء ودفيئاتها كثيرة، والطرُق زلِقة لا بدّ من تجفيف زُلقتها، وأنتم قادرون إن تشابكت العقول قبل الأيادي، ولا طريق إلّا إطلاق حوار جدّي نحن جميعًا في أمسّ الحاجة إليه اليوم قبل الغد؛ يجمع النّخب؛ من المزارعين والعمال والأكاديميّين روحانيّين وجسمانيّين، والشباب والشابات، وعلى الأقلّ كي لا يقول أحد منكم في حياته أو يُقال عنه بعد مماته: "أُكلنا أو أُكلواِ يوم أُكِل الثور الأبلق"!
سعيد نفّاع