اهلا حقيقة التيه الإسرائيلي في صحراء سيناء
كتب الكاهن حسني السامري
من يقف امام اللوحة الجدارية في المتحف السامري، المرسومة عليها خارطة التيه الاسرائيلي في شبه جزيرة سيناء، تسكنه رهبة المشهد، فيشعر وكأنه ينظر الى التاريخ ماثلاً أمام عينيه، وأن قدميه قد غاصتا في رمال تلك الصحراء، التي شهدت أكبر مسيرة جماعية لشعب عبر التاريخ، ألا وهي مسيرة التيه الذي جرت أحداثه قبل 3703 سنة.
ودونت التوراة "خمسة أسفار موسى" تفاصيل هذه المسيرة التي استمرت أربعين عاماً، منذ خروج بني إسرائيل وتحررهم من العبودية المصرية بقيادة النبي موسى بن عمران عليه السلام، متجهين نحو أرض كنعان، حيث ورد ذكر اثنين وأربعين محطة توقفوا عندها في هذا التيه، كما سردتها الأسفار الأربعة الأخيرة من التوراة وهي: الخروج واللاويين والعدد والتثنية.
ورغم مرور آلاف السنين على مسيرة التيه الاسرائيلي، لا تزال الكثير من جوانبها يلفها الغموض، إذ حير العلماء والكتاب والباحثين وعلماء الآثار من جميع ارجاء العالم، لعقود طويلة، في الوصول الى حقيقة هذه المسيرة، من حيث المكان، والزمان، والأحداث، لدرجة أن بعضهم ينكر أحداث التيه الاسرائيلي من الأساس.
وفي خضم كل هذا الغموض، قمت بتأليف كتابي "التيه الاسرائيلي في شبه جزيرة سيناء" في سنة 2012 ، والذي من خلاله استطعت تحديد 42 محطة، ابتداء من المحطة الأولى التي خرجوا منها "رعمسيس" في مصر، وحتى وصولهم الى المحطة الأخيرة "عربات مؤاب" في الأردن – أريحا، التي تقع على حدود الأراضي الكنعانية.
ويطرح هنا سؤال جوهري: لماذا استطعت ضمن كتابي "التيه الاسرائيلي في شبه جزيرة سيناء"، تحديد جميع محطات التيه الواحدة تلو الأخرى دون أي تردد، مع أن جميع الكتاب والباحثين وحتى علماء الآثار في العالم أجمع، عجزوا عن القيام بهذه المهمة؟
وللإجابة على ذلك لا بد من الرجوع إلى المنهج والمصدر لأولئك الذين تناولوا هذا التيه بالبحث والدراسة والتمحيص والتأليف، والذي يقارب عددهم المليون ونصف المليون من الكتاب والأدباء والباحثين، فنجد أن جميعهم اعتمدوا في دراستهم هذه وابحاثهم تلك، أولاً وأخيراً على التوراة اليهودية، المكتوبة باللغة الآشورية، التي قام كل من عزرا ونخميا بتحويلها من اللغة العبرية القديمة الى اللغة الآشورية، نكاية بالسامريين، قبل ما يقارب 2300 سنة، مما نتج عن عملهم هذا ما يقارب 7000 خلاف بين التوراتين العبرية القديمة السامرية، والنسخة التوراتية اليهودية الآشورية، ما بين حرف وكلمة وآية وحتى سور من التوراة، من أجل هذا عجزوا عن تحديد مسيرة التيه الاسرائيلي.
بينما كنتُ الوحيد في العالم ممن اعتمد في بحثه ودراسته وتحليلاته على التوراة السامرية "خمسة اسفار موسى" المكتوبة باللغة العبرية القديمة، أم لغات العالم أجمع، ومن خلال 26عاماً من البحث المتواصل، استطعت -بعون الله تعالى- تحديد مواقع التيه الإسرائيلي وتوقيتها بدقة من حيث المكان والزمان، والتاريخ، معتمداً بذلك أيضاً على الجيومتريا ( حساب الجمل).
وقد نال كتابي "التيه الاسرائيلي في شبه جزيرة سيناء" في عام 2013، جائزة أفضل كتاب عن القدس في مهرجان زهرة المدائن السادس للإبداع الثقافي ، الذي نظمه ملتقى المثقفين المقدسي.
صحيح أن العديد من العلماء المعاصرين أجمعوا على أن الكتاب المقدس، لا يقدم وصفاً دقيقاً عن التيه الاسرائيلي في شبه جزيرة سيناء، في كيفية استساغة حياة مجتمع يضم في ربوعه المليونين من الأنفس، ضمن ظروف صحراوية قاسية ومليئة بالمشاكل والصعاب، من شح المصادر المائية، وقلة الموارد الغذائية، إلى التخلخل البيئي والاجتماعي والسياسي، والعصيان الفردي منه والجماعي، الذي واكب بعض من هذه المحطات التي نزلوا فيها ورحلوا عنها اثناء هذه المسيرة.
لكن شكوكهم هذه تعود لعدة أسباب، وهي قلة المصادر والمخطوطات والحقائق التي في متناول ايديهم حول تلك المسيرة، إضافة الى اندثار الآثار البيئية والحضارية التي تركها هذا الشعب بسبب الطبيعة الجغرافية الصحراوية للمنطقة، واعتمادهم على الرواة والرواية، كما أن دراستهم للنسخة اليهودية من التوراة فقط، مع تجاهلهم لما ورد في التوراة السامرية "العبرية القديمة"، جعل من الصعب عليهم رسم خارطة واضحة المعالم ومتكاملة لمسيرة التيه، والتي اشرنا لها في مستهل بحثنا هذا..!
(يتبع الجزء العاشر)