اهلا مِسَــارُ سِنْجِـــل – عَبْوَيْــن
رِحْلَــةٌ عَلَى دُرُوبِ التَّارِيــخِ وَالطَّبِيعَــةِ
الباحــث: خالــد أبــو علــي
كانت الشمس لم تشرق بعد في صباح الثاني والعشرين من آب 2025، عندما انطلق فريق "امشِ وتعرّف على بلدك" من رام الله والبيره نحوقرى أبو قش ووسردا وجفنا نحو سنجل. على الطريق، شاهد الفريق الجدران الحديدية والأسلاك الشائكة المحيطة ببلدة سنجل، والتي بدت كسجن كبير، إضافة إلى إغلاق مدخلها الرئيس ببوابة حديدية منعت المواطنين من التنقل بحرية نحو أراضيهم ومزارعهم. ضمّ الفريق 53 مشاركًا من مختلف الأعمار، وهم يشقّون الدروب الجبلية الساحرة المحيطة، حيث تعانقت القمم الخضراء مع الوديان العميقة، لتكوّن لوحة طبيعية خالدة، تعكس صمود الفلسطيني وجمال الأرض الذي لا يُقهر.
غابة برية وعطر الأرض
تزيّنت الجبال بأشجار معمّرة خلال سير الفريق في " واد البستان " : البلوط والخروبواللوز والرمان والسماق والسويد والبطم والسدر والزعرور والقطلب والصنوبر، إضافة إلى الرتم الذي الذي أضفى على السفوح ألوانًا زاهية بثماره الفيروزية والخمرية. وبين الصخور نبتت أعشاب ونباتات طبية مثل الزعتر البري والفارسي، الميرمية، الشومر، والطيون، فملأت الأجواء بعبيرها النفّاذ الذي اختلط مع نسيم الجبال العليل.
الحضور الخفيّ... حين تهمس الحياة من تحت الغياب
تابعنا المسير، وكانت الأرض تحكي بلغتها الخاصة، لغة الآثار التي لا تُرى بالعين ولكن تُحسّ بالقلب، لم نرَ غزال الجبل الفلسطيني ، لكن بعره كان مرسومًا على الدرب كرسالة من الجبل الفلسطيني، يقول فيها: "كنت هنا، وما زلت". رأينا روث الخنازير البرية متناثرًا بين الأعشاب، ومواكر الثعالب والشياهم "النيص" محفورة عند أطراف الصخور، شاهدة على حياةٍ تنبض في الخفاء، حذرة من ضجيج الإنسان لكنها ما زالت تقاوم للبقاء.
كل شيء كان يهمس بأن الجبال ما زالت حيّة، تسكنها كائنات تعرف سرّ الليل، وتغني للوطن بطريقتها. العصافير، رغم غيابها عن أنظارنا، كانت تزقزق فوقنا كأنها تُهيّئ فراش النوم بين الأغصان، تستقبل النهار بزغاريد صغيرة تملأ الغابة بهجة وسرورًا، كانت أصواتها كأنها نثر موسيقيّ لا نعرف من أين يبدأ ولا إلى أين ينتهي، لكنها كانت كافية لتُخبرنا أننا لسنا وحدنا، وأن الطبيعة حين تصمت، تترك للروح أن تُنصت.
خربة سلعة.. شواهد رومانية على تلال فلسطين
على الطريق بين جبال سنجل وعبوين شمال غرب رام الله، توقّفنا عند "خربة سلعة"، الموقع الأثري الذي ما زال يحمل بصمات الحضارة الرومانية. هناك، شاهدنا بقايا قطع فخارية متناثرة على التلة، وأعمدة حجرية رومانية مكسورة تقف كأطلال صامتة فوق الأرض. بين الصخور بدت حجارة ضخمة مرصوصة بعناية، توحي بأنها كانت جزءًا من جدران وسور متين يحيط بالخربة القديمة القريبة من نبع ماء يطلق عليه "عين سلعة" . هذه المشاهد تعكس العمق التاريخي لفلسطين، حيث تتجاور الطبيعة مع الآثار لتؤكد أن هذه الأرض كانت وما زالت مسرحًا لحضارات متعاقبة تركت بصماتها عبر الزمن.
استراح الفريق عند عيون ماء "سلعة" وعدة ينابيع أخرى متناثرة في الوديان مثل " عين قنابة " ، والتي ارتبطت بأساطير شعبية وحكايات موروثة تؤكد عمق جذور الفلسطيني في أرضه. كانت المياه الرقراقة دليلاً على حيوية المكان، وشاهدة على استمرارية الحياة رغم كل التحديات.
ندوب الاستيطان في الجغرافيا
لكنّ الجمال لم يكتمل؛ إذ أطلت على الوديان مستوطنة معاليه ليفونا التي أقامتها حركة "غوش أمونيم" الاستعمارية عام 1980 كنقطة عسكرية، ثم تحولت إلى مستوطنة دائمة عام 1984. تقع المستوطنة على أراضي اللبن الشرقية وعبوين وسنجل فوق جبل الباطن، وتشكل جزءًا من تكتل استيطاني ضخم يضم (عيلي، شيلو، شفوت راحيل)، جميعها تشرف على طريق نابلس – رام الله. هذه الكتل الخرسانية شوهت المشهد الطبيعي، وحوّلت قمم الجبال إلى أسوار إسمنتية خانقة.
كرم الضيافة.. نكهة فلسطين الأصيلة
بعد مسار بطول عشرة كيلومترات، وصل الفريق إلى تخوم قرية عبوين، حيث كروم الزيتون واللوز والجوز العملاقة التي تحتضن الأرض كأذرع أبدية. تحت ظلال شجرة مشمش معمّرة، استراح المشاركون لالتقاط الصور التذكارية، وكأنهم يحيون طقوس الأجداد من جديد.
لم يكتمل جمال المسار إلا بكرم الضيافة الذي استقبل به أهالي عبوين فريق المسير. فقد أحضر الحاج أبو السعيد سحويل، أحد وجوه البلدة، بمشاركة ابنته جمان وحفيده محمد، فطورًا فلسطينيًا بامتياز ضمّ أصنافًا بلدية من زيت الزيتون والزعتر والجبنة البلدية واللبنة والمعجنات والفول والخضار الطازجة وغيرها من المأكولات التراثية الفلسطينية، إضافة إلى خبز الطابون الأصيل الذي فاح عبيره بين المشاركين. جلس الفريق على الأرض تحت ظلال شجرة مشمش معمّرة كبيرة، يتبادلون الأحاديث والابتسامات في أجواء دافئة تستحضر روح القرية الفلسطينية. وبعد الفطور، كان لا بد أن تُستكمل الضيافة ببوظة فلسطينية تقليدية قدّمها أبو إسكندر من محله الشهير بوظة بلدنا، لتضفي نكهة باردة ومنعشة على صباحٍ ريفي لا يُنسى.
العمارة الريفية.. ملامح الأصالة الفلسطينية
استكمل الفريق سيره نحو البلدة القديمة في عبوين، حيث ارتسمت أمامه لوحة من البيوت الحجرية المكعبة، مبنية من حجارة كلسية محلية صلبة، ومتقاربة في أحجامها، تتوَّجها أسطح مقبّبة أو مقعّرة خفيفة لحماية الداخل من حرارة الصيف وبرودة الشتاء. بعض هذه البيوت ما زال مأهولًا بالعائلات، فيما ترك الزمن أثره على أخرى مهجورة أو متصدعة. يتناغم هذا النسيج المعماري مع الحقول الزراعية المتدرجة المحيطة بالبلدة، في مشهد يجمع بين العمل الإنساني والطبيعة الجغرافية.
تتخلل الأزقة الضيقة عقود حجرية منخفضة تربط بين البيوت، وتفتح الأبواب الخشبية العتيقة على ساحات صغيرة داخلية كانت تُستخدم للتخزين أو تربية المواشي. النوافذ ضيقة وعميقة الجدران، تعكس أسلوب الدفاع الريفي في مواجهة الغزوات، وتتيح في الوقت نفسه تهوية وإنارة طبيعية. وفي قلب هذا النسيج برز مبنى ضخم، تآكل جزء منه وأصبح آيلاً للسقوط، عرّفنا الأهالي بأنه قلعة آل سحويل، التي شكّلت مع بيوت القرية وحدة عمرانية متكاملة تجمع بين الطابع السكني، الدفاعي، والإداري.
قلعة سحويل.. حارس التاريخ العثماني
تتوسط عبوين قلعة أثرية تُعرف بـ قلعة آل سحويل، وهي بناء مربّع الشكل من طابقين، يحيط بساحتها الرئيسية صف من الأقواس الحجرية المتينة. شُيّدت القلعة في العهد العثماني لتكون مقرًا للحكم المحلي، حيث أدار من داخلها مشايخ بني زيد شؤون تسع عشرة قرية فلسطينية ممتدة بين المرتفعات الغربية لرام الله والسهول الشرقية لنابلس. كانت القلعة أشبه بحصن إداري–عسكري؛ إذ ارتبط موقعها الجغرافي بقدرتها على مراقبة الطرق التجارية القديمة التي كانت تربط الساحل الفلسطيني بجبال القدس ونابلس.
وإلى جانب وظيفتها السياسية والعسكرية، عكست القلعة فنون العمارة الريفية الفلسطينية في القرن التاسع عشر، من خلال استخدام الحجر الكلسي المحلي، والأقواس نصف الدائرية، والساحات الداخلية التي كانت تؤوي الاجتماعات، وتُستقبل فيها الوفود القادمة من القرى المجاورة. وقد اعتُبرت القلعة نموذجًا لما يُعرف بعمارة "قرى الكراسي"، حيث لعبت دور العاصمة المصغّرة في محيطها.
في السنوات الأخيرة، قامت مؤسسة "رواق" بترميم أجزاء واسعة من القلعة، لتبقى شاهدًا حيًا على استمرارية الحضور الفلسطيني في المكان، وذاكرة معمارية تروي قصة الحكم العثماني في المنطقة، وتؤكد مركزية قرية عبوين في التاريخ الاجتماعي والجغرافي لفلسطين.
الطبيعة تقاوم... والذاكرة لا تُمحى
لم يكن المسار مجرد رحلة ترفيهية، بل هو عودة إلى الجذور وتجديد للعهد مع الأرض ، ففي الوقت الذي يواصل فيه المستوطنون الاعتداء على الأرض والإنسان، تبقى الطبيعة الفلسطينية بما تحمله من جبال ووديان وعيون ماء وقرى أثرية شاهدة على الجذور الراسخة لشعبٍ لا تنكسر صلته بأرضه. وهذه المسارات تذكّر الأجيال الجديدة بأنّ فلسطين ليست فقط حدودًا مرسومة على الخارطة، بل هي هواء نتنفسه، وتراب نلمسه، وذاكرة لا تُمحى. إن السير في دروبها فعل مقاومة بحد ذاته، ورسالة بأنّ الاستيطان قد يسرق الأرض لكنه لن ينتزع الانتماء.