
















اهلا مثل بالع الموس!
السبت, 4 تشرين أول/أكتوبر, 2025
يميل الموقف الفلسطينيّ إلى التفاعل مع المبادرة، المطروحة في البيت الأبيض في هذا الزمن الأسود، بوصفها فكرة مبدئيّة تخضع للمساومة الجدّيّة. حميَ الجدل حولها نفر واستقطب. قال أحد القادة الفلسطينيّين عن هذه المبادرة: "ويلٌ لنا إن قبلناها وويلٌ لنا إن نحن رفضناها ورددناها!" كان هذا الرجل مثل بالع الموس لا يستطيع أن يبلعه ولا يستطيع أن يلفظه. ولا بدّ من قرار يقبل القسمة على ثلاث. والثلاث التي أقصدها هي ركائز جدليّة متساوية في قوّتها تتمظهر في ثلاثة نصوص أدبيّة، لغتها فلسفيّة مقاصدها سياسيّة آنيّة.
الحكيم والسمكة: من الحريّة إلى المقدرة
من منّا لا يعرف قصّة "الحكيم والسمكة" للحكيم توفيق؟ يقول توفيق الحكيم على لسان السمكة إنّ الحريّة تقع خارج المشيئة ومداركها، "فالناس ما زالوا من لحم ودم، وهم رهناء الناس وغير الناس وعبثًا يتلفّظون باسم الحريّة. فهم صيّادو سمك لا غير".. يبالغ الحكيم في قصّته الفلسفيّة الذكيّة ويمدّها في بعض المواضع إلى حدود السفسطة. نحن صيّادو سمك، صحيح. لا نملك الحريّة في انتقاء السمكة التي نريد اصطيادها من البحر، صحيح أيضًا. لكنّنا ما زلنا نملك القدرة المبدئيّة على فعل الصيد نفسه في الزمكانيّة التي نشاء. ومن حقّنا أن يكون فعل الصيد واجبًا ضمن قناعاتنا وخياراتنا المتاحة مبدئيًا وميدانيًا. ألأنّنا لا نملك حريّة اختيار سمكة بعينها، نصطادها بقرار قبليّ، نتنازل عن حقّنا الواجب في أن نلقي بصنّارتنا في البحر أيّها الحكيم؟!
الاسم والحضيض: من الاستقطاب إلى الواقع
في رواية "الاسم والحضيض" (1992) للأديبة التونسيّة فضيلة الشابي وردت جملة معناها أنّ الرجال جميعهم وحوش خرجوا من وعاء واحد، أو كما قالت. جملة كهذه لا تمثّل الأديبة نفسها لا بصفتها الحقيقيّة ولا بصفتها الافتراضيّة الضمنيّة. لكنّ التصريح بها يؤكّد حضورها الفاعل عند بعضهنّ أو بعضهم على مستوى التفكير. ولمّا كنتُ أناصر المرأة، بكلّ جوارحي ودمي الذي يتقافز في شراييني من الوريد إلى الوريد، فقد ارتبكتُ للحظات. ارتبكت وغضبت. أما كانت تلك المرأة، التي ترى في جميع الرجال وحوشًا، تفضّل كلبًا مسالمًا إذا ما فاجأها كلبٌ في زقاق معتم مثلًا؟ أما كانت في تلك اللحظات ترجو الله تعالى أن يجعله كلبًا مؤدّبًا ينبح ولا يعضّ مثل كلب الشيخ والمطران؟! أكانت الكلاب كلّها "كلابًا" في هذا الليل المعتم والزقاق الضيّق الخالي من الدومري؟! أما كانت تتضرّع إلى الله تعالى، الذي لا تؤمن به، أن يرسل إليها من السماء رجلا "وحشًا" ينقذها من هذا الكلب؟! ألا يصير ذاك الرجل "الوحش"، في هذا الظرف، ملاكًا مرسلًا من عند ربّ رحيم لا ينسى من رحمته أحدًا؟! هذه هي طبيعة الخلق. لا أحد يملك المشيئة ليأتي "بخلقٍ جديد". تكفيني المشاركة الفاعلة في هندسة هذا الواقع.
المتشائل: الخوارزميّات التشاؤليّة
تحدّث إميل حبيبي بحسّ ساركاستيّ تشاؤليّ حادّ عن سليمان ومحمود وموسى، صحيح. لكنّ التشاؤل أخو المفاضلة بين المصيبة ونصفها. والمفاضلة في هذه الحالة مساومةٌ أو مفاصلةٌ مباحة. والأصل في كلّ شيء هو الإباحة وليس التحريم. والإباحة التي نعنيها هي حالة تفاوضيّة. قد يسمّي سليمان نفسه شلومو ومحمود دودي وموسى موشي. قد يحدث هذا حين يساوم هؤلاء ويُفاصلون الظرف على الطول المسموح للحبل البراجماتيّ المتاح لهم لتحصيل رزقهم وضمان بقائهم. وهي ضرورات لا تبيح المحظورات. أسماؤهم الفطريّة تحمي عروبتهم وفلسطينيّتهم. وأسماؤهم العمليّة المكتسبة هي أسماء تراكمت على الأصل. هي عدّة الشغل. هي أسماء شغل. هي فعل براجماتيّ طارئ موقوت حتّمته حلاوة الروح ونزعة البقاء. لم يفرّط هؤلاء بأسمائهم الحقيقيّة بل أضافوا عليها طبقة أخرى من التسمية وهي شرطيّة في مبعثها. وأسماء الشغل تستلزم زُورًا وسيعًا يقدر على بلعها و"تجمّطها". وفي الأمر مفارقة. والمفارقة من مستلزمات الفعل البراجماتيّ. والبراجماتية في وجهتها العامّة مسألة عقليّة حسابيّة خوارزميّة. البراجماتيّة ليست شتيمة ولا مذمّة ولا عيبًا إن كانت من حلاوة الروح. وليس فوق الروح أيّ خوارزميّة!