
















اهلا
في خضم هذا الضجيج الذي يملأ حياتنا — صخب الأخبار، تصارع القوى، وانهيار المعاني — يولد داخلنا سؤال موجع:
هل تغيّر العالم، أم أننا نحن الذين فقدنا قدرتنا على رؤيته كما كان؟
في اللحظات الهادئة، تلك التي تسبق النوم أو تتبع الألم، حين تذوب الأقنعة ويظهر جوهر الإنسان عارياً أمام ذاته، نكتشف أننا لسنا إلا مخلوقات تبحث عن اتزانٍ بين السماء والتراب، بين القدر والإرادة، بين الغيب والعقل.
وهنا تبدأ الفلسفة: لا من الكتب، بل من خفقات القلب.
أولاً: الإنسان بين الفناء والبعث
نولد كل يوم، ونموت كل ليلة.
تموت فينا آمال صغيرة، وتولد أخرى من رماد الخيبات.
تلك الدورة الوجودية ليست سوى تمرينٍ على الفناء — على قبول أن الوجع ليس عدواً، بل معلّمًا صامتًا.
الفيلسوف الألماني نيتشه قال يوماً: “من يمتلك سبباً يعيش من أجله، يمكنه أن يتحمل أي كيف.”
ولعلنا اليوم، في مواجهة هذا العالم الممزق، بحاجة إلى أن نجد “السبب” — المعنى الذي يجعل الألم محتملاً، لا عبثياً.
الوجود لا يكتمل بالراحة، بل بالوعي.
كل تجربة قاسية تمرّ بنا، من فقدٍ أو خذلان أو حرب، ليست مجرد مأساة، بل هي باب عبور إلى الذات الأعمق.
ولعلّ أعظم الانتصارات هي تلك التي لا تُرى، والتي تحدث في صمت الروح.
ثانياً: بين دلالات الساعة وحضور الإنسان
حين نتأمل في الأحداث التي تعصف بعالمنا — من الحروب التي تشتعل في فلسطين وأوكرانيا، إلى الفيضانات والزلازل والاحتباس الحراري — يصعب ألا نتساءل:
هل نحن نعيش علامات الساعة الكبرى؟ أم أننا نعيش اختبار الوعي الإنساني قبلها؟
الإشارات الدينية ليست نبوءات للترهيب فقط، بل دعوة إلى صحوة أخلاقية.
فعندما يقول النبي ﷺ: “لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، وتكثر الفتن، ويظهر الجهل.”
فهو لا يُنذر بالفناء فقط، بل ينبهنا إلى ضياع الإنسانية في داخل الإنسان.
اليوم، نرى المعرفة تتسع والمغزى يضيق، ونرى التكنولوجيا تبلغ ذروتها بينما القلوب تزداد فراغاً.
الذكاء الصناعي يتحدث بلغة البشر، بينما البشر نسوا لغة الرحمة.
ألسنا في قلب النبوءة، لا بمعناها الغيبي، بل بمعناها الوجودي؟
ثالثاً: فلسطين.. المرآة الأخيرة للضمير الإنساني
ما يجري في غزة ليس مجرد حرب بين طرفين، بل امتحانٌ للإنسانية جمعاء.
عندما يُقتل طفل تحت الركام، لا يُقتل جسده فقط، بل يُغتال فينا جزء من المعنى.
حين يُدفن شهيد على عجل، يُدفن معه خجل العالم وصمته.
غزة اليوم ليست جغرافيا، بل ضمير العالم المُعلق بين السماء والسياسة.
هي الصرخة التي تُذكّرنا أننا لم نزل بشرًا رغم كل شيء.
لكن في كل مأساة، هناك درس فلسفي عميق:
المقاومة ليست فقط أن ترفع السلاح، بل أن تظلّ تحبّ الحياة رغم أنف الموت.
أن تقول “أنا موجود”، حتى حين يريد العالم أن يمحوك من الخريطة.
وهذا الوعي الجمعي هو نواة القيامة الحقيقية — قيامة القيم لا الأجساد.
رابعاً: الفلسفة كدواء للزمن المريض
في زمن تتقافز فيه الحقائق الكاذبة كالإعلانات، نحتاج أن نعود إلى أصل الفلسفة:
أن نسأل.
أن نشك.
أن نفكر دون خوف.
الفكر الفلسفي لا يُعادي الدين، بل يُنقّيه من التكرار الأعمى.
كما لا يعادي الواقع، بل يزرع فيه بذور المعنى.
وفي هذا الزمن المريض بالخوف، يصبح السؤال مقاومة، والتأمل عبادة، والصمت صوتًا أعلى من كل ضجيج.
خامساً: من الغفلة إلى اليقظة — الإنسان الجديد
الإنسان الجديد الذي يولد من رحم هذه الأزمات ليس ذاك الذي يملك أكثر، بل الذي يفهم أكثر.
هو من يتعلم الإصغاء إلى صمته الداخلي،
ويرى في العواصف علامات لا نهايات،
وفي الكارثة فرصة لإعادة بناء العالم من الداخل.
ليس المقصود أن ننتظر النهاية، بل أن نصنع البداية.
أن نكون نحن الفجر الذي نبحث عنه.
أن نحيا بمعنى، لا بعادة.
أن نرى الله لا في السماء فقط، بل في وجوه الناس البسطاء، في صبر الأمهات، في دعاء طفلٍ نجا من الحصار.
خاتمة: فجرٌ يولد من رحم الليل
ربما نحن في آخر الليل، وربما الفجر أقرب مما نظن.
فكل هذا الوجع الذي يملأ الأرض، هو حركة ولادة كونية — ولادة وعي جديد.
ربّ العالمين لا يهدم عبثاً، بل يفتح طريقاً نحو بعثٍ أجمل.
فلتكن ساعتنا — قبل “الساعة” — لحظة صدق مع أنفسنا.
لنعترف بما فينا من خوف وأنانية، ثم نتجاوزهما.
لنجعل من هذا العالم المترنّح بين الظلم والنور ساحةً للمعنى، لا للعبث.