
















اهلا في روايتها «نبضات محرّمة»، تنسج الكاتبة الفلسطينية رولا خالد غانم عملاً روائيًا متفرّدًا في بنائه ورؤيته، يمزج بين الواقعيّ واليوميّ، وبين الحميميّ والسياسيّ، ليقدّم صورة بانورامية عن المجتمع الفلسطيني بكل طبقاته وأجياله، من خلال صوت أنثويّ قويّ، يحكي ويحتجّ ويُعيد كتابة الحكاية من داخلها. هذه الرواية لا تكتفي بسرد قصة عائلة أو حكاية حبّ، بل تمارس فعلاً توثيقيًا وجماليًا، يعيد قراءة الواقع من منظور المرأة التي تكتب ذاتها، وتكتب تاريخها الشخصيّ والجمعيّ معًا. 🌿 بين التابو والتحرّر: عنوان يتجاوز المعنى الظاهر فالنبض هو الحياة، أمّا التحريم فهو القيد. وبين هذين الحدّين يتأرجح مصير شخصيات غانم — نساء ورجال — في مجتمعٍ يجرّم الرغبة الأنثوية ويغفر للرجل خطيئته باسم الأعراف. إنه عنوان ميتافيزيقيّ بقدر ما هو واقعيّ، إذ يرمز إلى الممنوعات التي تحكم أجسادنا وعواطفنا وخياراتنا، وإلى الخوف المزمن من مواجهة الذات. من خلال هذا العنوان، تنجح الكاتبة في تأطير الصراع بين الإنساني والاجتماعي، وبين الطبيعي والمصطنع، لتطرح سؤال الحرية في أعمق صوره: هل يمكن للمرأة أن تحبّ دون أن تُدان؟ وهل يمكن للحبّ أن يكون فعلاً نقيًّا في عالمٍ ملوّث بالسيطرة والسلطة والهيمنة؟ 🔶 البنية السردية: حكايات تتناسل من رحم الذاكرة تُبدع الكاتبة في استخدام أسلوب السرد الدائريّ؛ فكلّ حكاية تلد أخرى، وكلّ صوتٍ يحمل داخله صدى الأصوات السابقة. تتحوّل الجدّة «راضية» إلى رمز للأرض والذاكرة والصمود، بينما تمثّل «أمينة» و«إلهام» و«سهير» تدرّجاتٍ مختلفة للأنثى الفلسطينية بين الطاعة والتمرّد. هذا البناء يجعل الرواية أقرب إلى ملحمة نسوية فلسطينية، تروي الحكاية من داخل البيت لا من خندق المقاومة، ومن رحم الألم لا من سطح الشعارات. 🕊️ المرأة في مواجهة المنظومة الذكورية من راضية التي تتوارث القهر وتعيد إنتاجه، إلى أمينة التي تجرّب الحبّ رغم المحرّم، وصولًا إلى إلهام التي ترفض الزواج القسري وتبحث عن كيانها — كلهنّ يتقاسمن قدرًا واحدًا: العيش في مجتمعٍ يقيس الشرف بعذرية الأنثى لا بضمير الإنسان. الكاتبة لا تدين شخصياتها، بل تدين المنظومة التي تصنع المأساة وتُكرّرها عبر الأجيال. فـ”النبضات المحرّمة” ليست زلّة أخلاقية، بل احتجاج على حرمان المرأة من إنسانيتها. وهنا تكمن قوة الرواية: في قدرتها على تحويل الخطيئة الفردية إلى قضية وجودية وجماعية. 🔹 اللغة والأسلوب: مزيج من الشاعرية والواقعية تستخدم اللهجة الفلسطينية في الحوار لتأكيد هوية المكان، وتدمجها بسردٍ فصيحٍ رائقٍ يحمل الكثير من الصور والمجازات. “عرفت حينها أن الوقت بالفعل هو الفسيفساء التي تتركّب ضمن لوحة تشكّل لكلّ واحد منّا عمره، لكنه لا يقدر أن يقبض عليه…” تصف وتفكّر، ترثي وتتمرّد، في آنٍ واحد. وفي مشاهدها العاطفية، تحافظ الكاتبة على خطّ رفيع بين الجرأة والأدب، فتكتب الجسد ككيانٍ إنسانيّ لا كموضوع إغراء. 🧩 المكان والزمان: فلسطين بوصفها مسرحًا للذاكرة المكان في رواية غانم ليس خلفيةً للأحداث، بل شخصية فاعلة تنبض بالحياة، تصحو مع النداءات وتئنّ مع القصف، وتغدو الأمّ الكبرى التي تلد أبناءها ثم تفقدهم في دورة ألمٍ لا تنتهي. أما الزمن، فمتعدّد الطبقات: من النكبة إلى زمن كورونا، وكأنّ الكاتبة تقول إن النكبة لم تنتهِ بعد، بل تغيّرت أشكالها. 🌹 دلالات اجتماعية وإنسانية فالمعاناة هنا تُروى من داخل البيت لا من خارج الحدود. الاحتلال حاضرٌ في الجدار الذي يخنق المدينة، كما في الجدار الذي يخنق المرأة داخل بيتها. وبين القهر الوطني والقهر الأسري، ترسم الكاتبة ازدواجية السجن الفلسطيني: سجن الجغرافيا وسجن التقاليد. ✨ خاتمة: نبض المقاومة الناعمة هي رواية تكتب بالدمع والتمرّد، وتقول للقارئ: إنّ الحرية لا تبدأ من السياسة، بل من الجسد الذي يرفض الخضوع، ومن القلب الذي يجرؤ على النبض. “بهذه الرواية تثبت رولا غانم أن الكتابة النسائية ليست ترفًا، بل مقاومة ناعمة في وجه عالمٍ يرفض الاعتراف بأن للمرأة نبضًا مستقلًّا.
العنوان نبضات محرّمة يستفزّ القارئ منذ اللحظة الأولى.
تتبنّى رولا غانم تقنية الحكي المتسلسل عبر الأجيال، فتبدأ الرواية بمشهدٍ يجمع الجدّة والأحفاد في زمن جائحة كورونا، لتتحوّل الجلسة العائلية إلى مساحة اعترافٍ وذاكرةٍ، حيث تُستعاد الحكايات وتُروى الأسرار المؤجّلة.
المرأة عند رولا غانم ليست كائناً ضعيفًا، بل هي محور الصراع والنهضة والسقوط في آنٍ واحد.
لغة رولا غانم تمتاز بالبساطة العميقة — لغة تُمسك بالنبض اليومي وتفتحه على الشعر.
هكذا تتحوّل اللغة إلى أداة تأملٍ فلسفيّ، لا مجرّد وسيلة للتعبير.
الرواية تتنقّل بين القرى والمدن الفلسطينية — دير الغصون، طولكرم، وأمّ الزينات — لتُعيد بناء جغرافيا الوطن من خلال الحكايات الأنثوية.
من خلال مصائر شخصياتها، تطرح الكاتبة أسئلة عن السلطة الأبوية، والزواج القسري، والفقر، والتعليم، والاحتلال، ولكن دون شعارات.
«نبضات محرّمة» عملٌ ناضج ومتقن، يُكرّس رولا غانم كواحدة من أبرز الأصوات النسائية الفلسطينية الجديدة، القادرة على الجمع بين الصدق الإنساني والعمق الفنيّ.