
















اهلا
لاهوت القرب في عصر الوحدة الرقمية: قراءة لاهوتية–إنسانية في عطش الإنسان للحضور
رانية مرجية
مقدمة
ثمة لحظة، في آخر الليل، حين تُطفأ الشاشات، ويعمّ الصمت الغرفة، ينكشف كل شيء:
الإنسان ليس كما يبدو في الصور… ولا كما يبدو في منشوراته… ولا كما يبدو للعالم.
إنه كائنٌ هشّ، يختبئ وراء الضوء الأزرق، ويبحث عن معنى يصمد، عن يدٍ غير رقمية تمسك به، عن حضور لا يغادر حين تنقطع الشبكة.
في هذا المشهد، الذي صار جزءًا من يوميات البشر، يعود سؤال لاهوتي، قديمٌ جدًا وحديثٌ جدًا في آن:
هل يبقى الله قريبًا حقًا، في عالم يتباعد فيه البشر رغم اتصالهم؟
ومن قلب هذا السؤال يولد موضوع هذا المقال:
لاهوت القرب—ذلك الجسر الخفي بين السماء والإنسان، بين الروح والشاشة، بين الله والوحدة الحديثة.
الفصل الأول: الوحدة الرقمية… الوجه الجديد للغربة البشرية
لم تعد الوحدة اليوم قلةَ أصدقاء ولا فراغ علاقات.
الوحدة الحديثة تحمل وجهًا آخر:
وحدة بين مئات المحادثات المفتوحة.
وحدة تحت صور مضاءة بخوارزميات الإعجاب.
وحدة في حضرة جمهور لا يرى دمعتك.
لقد صارت الوحدة “حالة داخلية” لا يبددها الاتصال، وصار الإنسان يعيش مفارقة مؤلمة:
كلما زادت خياراته للتواصل، قلّت مساحة صدقه.
هذه الوحدة ليست أزمة اجتماعية فقط؛ إنها جراح لاهوتية وش Existential wounds، لأنها تضع الإنسان أمام سؤال الهويّة والمعنى والحضور.
الفصل الثاني: لاهوت القرب… الله الذي يخرق قسوة المسافة
في عالم يختزل العلاقات إلى رموز وصور، يصبح الحديث عن “قرب الله” ضرورة لا تجمّل الواقع، بل تكشفه.
1) القرب كطبيعة لا قرار
في المخيلة الإيمانية المسيحية، لا يقترب الله لأنه يتحرك…
بل لأنه بطبيعته إله يقترب.
القرب ليس فعلاً بل هوية:
هو الله الذي انحنى على الإنسان، لا الإنسان الذي صعد إليه.
2) القرب الذي لا يحتاج جسدًا ليكون حقيقيًا… لكنه اختار الجسد ليعلّمنا الحقيقة
القرب اللاهوتي ليس روحانيًا غائمًا، وليس فكرة مريحة يطلقها منبر.
إنه قرب “متجسد”، أي قرب يعرف الجسد، يعرف التعب، يعرف الدموع.
3) القرب الذي يقاوم الفلسفة الباردة
في العصور القديمة، كانت الفلسفة تعتبر الله بعيدًا، لا يمسّ ولا يُمسّ.
أما لاهوت القرب فيقلب الصورة:
الله ليس متعاليًا بعيدًا… بل قريبًا يتعمّق.
الفصل الثالث: الشاشة كحدّ روحي—كيف تغيّر التكنولوجيا شكل الحضور؟
العصر الرقمي لم يخلق الوحدة فقط، بل أعاد صياغة معنى “الحضور”.
1) حضور بلا تجسد
في العالم الافتراضي، نحن نرى ونتواصل… لكننا لا “نلتقي”.
اللقاء يحتاج جسدًا ونبرة وصمتًا ولحظة إنسانية لا يمكن ضغطها في شاشة.
وهذا يعيدنا إلى السؤال:
كيف نختبر قرب الله في عالم فقد معنى القرب بين البشر؟
2) زمن اللا-يقين
الرسائل تُترك “مقروءة بلا ردّ”،
والعلاقات تنتهي بكلمة واحدة،
والصداقات تُدار بإلغاء متابعة.
هذا الهشاش المتطرف يجعل الإنسان يبحث عن حضور لا يتبخر بهذه السهولة.
وهنا يظهر دور الله:
ليس بوصفه “كائنًا سماويًا” يُطمئن القلق… بل الحضور الذي لا ينسحب.
3) الحضور الهادئ مقابل التنبيه الصاخب
التكنولوجيا تصرخ…
الله يهمس.
ومعادلة الوحدة الرقمية هي هذا التناقض:
الصوت العالي لا يشبع الروح، والصوت الهادئ وحده يلمسها.
الفصل الرابع: حين يصبح القرب شفاءً… لا تعريفًا لاهوتيًا
المؤمن اليوم لا يبحث عن تفسير فلسفي، بل عن علاج.
علاج القلق…
علاج الوحدة…
علاج الشعور بأن الوجود أكبر من طاقته.
لاهوت القرب يقدم نموذجًا فريدًا للشفاء الروحي:
1) شفاء من تشتت الهوية
العالم يفرض علينا صورًا لا تشبهنا.
لاهوت القرب يقول:
“قيمة الإنسان ليست فيما يعرضه، بل فيمن يحبه.”
2) شفاء من الخوف
أصعب ما في الوحدة الرقمية، أنها تجعل الإنسان يظن أن صوته لا يُسمع.
قرب الله يعيد تعريف الصوت:
ليس الصوت الذي يصل إلى الناس… بل الذي يصل إلى الله.
3) شفاء من سطحية العلاقات
القرب الإلهي يعيد الإنسان إلى العمق، لأنه علاقة لا تحتاج تزييفًا.
مع الله، لا وجود لفلتر… ولا أقنعة.
الفصل الخامس: اختبار حضور الله وسط عالم لا يعرف الصمت
الحضور ليس تجربة صوفية للنخبة، بل إمكانية يومية:
أولًا: عبر الصمت
الصمت لم يعد ترفًا؛
هو ضرورة كي تسمع نفسك… وكي ترى الله.
ثانيًا: عبر البطء
العالم يركض بسرعة جنونية.
لكن بالقرب الإلهي، نتعلم أن العمق لا يحدث في السرعة.
ثالثًا: عبر العلاقات البشرية الصغيرة
لا يختبئ الله في المعجزات الكبرى فقط، بل في:
يد تربت على كتفك
صديق يسمع دون أن يحكم
أمّ تنظف جرح طفلها
كلمة صدق وسط عالم مُزيّف
القرب الإلهي لا يلغي القرب البشري… بل يخلقه.
الفصل السادس: لاهوت القرب كخطاب عالمي… ليس مسيحيًا فقط
هذا الموضوع لا ينتمي لدين واحد.
إنه خطاب عالمي لأن الوحدة الرقمية عالمية، ولأن عطش الإنسان للقرب أعمق من كل الانتماءات.
لاهوت القرب، بالمعنى الواسع، يقدم:
لغة جديدة للأمل
مساحة جديدة للفهم
إطارًا روحانيًا لمواجهة القلق
ذراعًا تُسند الإنسان لا تفحصه
لذلك يصلح للنشر في صحيفة عالمية، لأن رسالته إنسانية قبل أن تكون دينية.
الخاتمة
لقد منحنا العصر الرقمي أدوات واسعة، لكنه سرق منا شيئًا أهم:
المسافة الآمنة للروح.
في عالم يزداد ضجيجًا، يصبح قرب الله ليس حقيقة لاهوتية فحسب، بل حاجة وجودية؛
تصبح العلاقة معه مساحة صادقة لا تخضع لخوارزمية،
وتصبح الصلاة هي اللحظة التي يلتقي فيها الإنسان بنفسه قبل أن يلتقي بالله.
نعيش اليوم في زمن تكثر فيه الكلمات وتقلّ فيه الأصوات…
لكن الله، في لاهوت القرب، لا يطلب منا أن نصرخ،
بل أن نعود إلى ذواتنا،
لأن القرب يبدأ من تلك النقطة الصغيرة التي نقول فيها بصوت خافت:
“يا الله، أنا هنا… فكن قريبًا.”
ومن هناك، يبدأ الحضور.