اهلا-بقلم اسامة العيسة سر باب كنيسة المهد الصغير
أسامة العيسة من بيت لحم: يثير الباب الصغير لكنيسة المهد في مدينة بيت لحم، فضول الكثير من زائريها، ويولد لديهم العديد من الأسئلة حول حجم الباب الصغير، حيث يتوجب على الزائر مهما كانت صفته ومكانته السياسية أو الدينية أو الاجتماعية الانحناء ليتمكن من الدخول إلى الكنيسة التي تعتبر ليس فقط الأشهر في العالم، لأنها المكان المعتمد لولادة المسيح، وانما الأقدم حيث بينت عام 339م، على يد الملكة البيزنطية هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين الذي اعتنق المسيحية وجعلها الديانة الرسمية لرعيته، مما أطلق حملة بناء للكنائس في الأماكن التي يعتقد أنها شهدت محطات في حياة المسيح مثل كنيسة المهد نفسها وكنيسة القيامة بالقدس.
ومثل كثير من الكنائس، بينت هذه الكنيسة في مكان استخدم سابقا من قبل الحضارات التي سبقت المسيحية، ففي هذا المكان بنى الإمبراطور الروماني هادريان ضريحا لأدونيس، ومثل كثير من الكنائس أيضا تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي، والبناء الحالي يعتقد انه أقيم على أنقاض البناء الأول بعد تدمير الكنيسة، ويعود للإمبراطور جوستينان الذي أعاد بناء الكنيسة عام 531م، وتم تحصين الكنيسة في فترات لاحقة، وادخال اضافات عليها.
وفي واجهة مدخل الكنيسة تظهر إطارات عدة أبواب، يمكن أن تعطي فكرة عن المخاطر التي تعرضت لها الكنيسة من هدم وتدمير جزئي أو كلي خلال الغزوات التي تعرضت لها فلسطين، فالإطار الأول يعتقد انه يعود لفترة بناء الكنيسة للمرة الثانية، ولكن تم إغلاقه، وتصغير المدخل، الذي تم إغلاقه هو الآخر، وتصغيره مرة ثالثة ثم مرة رابعة حتى اصبح كما هو عليه الان، لا يستطيع أحد المرور منه إلا انحناء، والهدف كان تقليل المخاطر ووضع صعوبات أمام الفرسان المقتحمين للكنيسة بان يدخلوها وهم على جيادهم.
ويطرح البعض فرضية أن تصغير مدخل الكنيسة الأهم في العالم ليكون على الشكل الذي هو عليه، الهدف منه إجبار الداخلين على الانحناء كنوع من التواضع والتكريم في حضرة من بينت الكنيسة على اسمه أو لاجله، ولكن بعض المؤرخين يرون أن السبب هو لمنع الفرسان من الدخول إليها على ظهور خيولهم، تقديسا للكنيسة، فيما يتمسك قسم آخر، بالرأي الذي يقول بان الهدف له علاقة بأمن الكنيسة، وإمكانية إغلاقها في وجه المقتحمين.
ويدعم الرأي الأخير ما يمكن اعتباره ميثولوجيا مسيحية محلية متداولة، عن المخاطر التي تعرضت لها الكنائس في فترات معينة خلال العهدين المملوكي والفاطمي، وتتعلق حول ظهور السيدة العذراء في الكنيسة بعد تعرضها لهجمات الفرسان الذين حاولوا تدنيس الكنيسة، وملاحقة الملائكة أو ما شابه، لهم إلى خارج الكنيسة ومحاصرتهم حيث quot;فطسواquot; جراء تجراهم على الكنيسة، وما زال أحد اقدم الأحياء في مدينة بيت لحم يحمل اسم راس فطيس، نسبة لحادثة quot;الفطسquot; المفترضة تلك.
ومثل هذه الحكايات غير شائعة على نطاق واسع في المدينة، حيث يندمج المسيحيون المحليون في إطار الثقافة الإسلامية إلى حد التماهي والذوبان، ولا يتم الحديث الا عن ما يعتبر التسامح الاسلامي مع المسيحيين.
ويتفق الجميع بان المدخل على شكله الحالي صمم زمن العثمانيين، والى تلك الحقبة تعود التقسيمات الحالية للوظائف والأدوار لكل طائفة من الطوائف المسيحية في الكنيسة، والتي ما زالت تحكم العلاقة بينها حتى الان وتسمى (الاستاتكو) أي الوضع القائم.
والكنيسة الان عبارة عن مجمع كنسي، يضم دير الأرمن ودير الروم الأرثوذكس، بالإضافة إلى كنيسة القديسة كاترينا التي يقام فيها كل عام قداس منتصف الليل الذي يترأسه بطريرك اللاتين، وينقل القداس في بث مباشر إلى مختلف أنحاء العالم.
ويضم الدور السفلي للكنيسة أهم معالمها وهي مغارة الميلاد، التي يعتقد أن المسيح ولد فيها، وأيضا مغارة القديس جيروم وهي كناية عن عدة مغر متداخلة شبيهة بأقبية، ارتبطت بالقديس الذي يحمل اسمها ويعرف أيضا باسم هيرونيموس، وعاش ما بين عامي (340-420م)، وامضى جيروم سنوات طويلة من عمره في هذا المكان تحت كنيسة المهد، معتكفا منكبا على كتبه، ليقدم للعالم أول ترجمة شاملة للكتاب المقدس، وعلى تلك الترجمة التي أنجزها جيروم، لا يزال مسيحيو العالم يعتمدون، وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، وكذلك يفعل الباحثون والدارسون، مما يعطي صورة عن حجم تأثير العمل الذي أنجزه.
ويعود اصل جيروم إلى بلاد دلماسيا في القسم المتاخم للبحر الأدرياتيكي التي تعرف الان باسم يوغسلافيا، وكلفه البابا بإنجاز ترجمة للأناجيل من العبرية والآرامية إلى اللاتينية، فحضر إلى هنا، بصحبة أربع نساء، نذرن أنفسهن لخدمة الكنسية، ونظّف المغر والأقبية، واخذ يعمل بدأب لإنجاز ترجمته التي كلف بها.
وترسم بعض المصادر صورة نمطية لجيروم، مثل كثير من قديسي القرن الرابع الميلادي، كشخص لابن عائلة ثرية، ويعيش حياة خارجة عن كل إيمان ثم هداه الله بعد اختبار روحي.
وعندما كان جيروم وثنيا برز كمثقف مشتغل في العلوم والآداب، وأراد أن يسخر ذلك لإيمانه الجديد، فاتجه إلى بيت لحم لينقطع إلى الترجمة وكان عمره نحو 30 عاما.
والمغر التي عمل فيها جيروم تضم رفاته، ويوجد نحت لوجهه في إحدى المغر، التي تستخدم حالياً، لإقامة الصلوات، خصوصا للحجاج الأجانب.
وخارج كنيسة القديسة كاترينا المقامة على مغارة جيروم، يوجد تمثال كبير له، وهو يحمل كتابا وريشة وتحت قدمه جمجمة يعتقد أنها جمجمته، لكن من الصعب التأكد من ذلك، أما المؤكد فان العالم تقديرا لجهوده، يحتفل بيوم الترجمة العالمي في ذكراه.